فصل: تفسير الآيات (1- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة آل عمران:

.تفسير الآيات (1- 9):

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
{الم الله} حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام {الله} وفتحت لخفة الفتحة، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في {حم}. ولا يصح أن يقال: إن فتح الميم هو فتحة همزة {الله} نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز. وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف، والباقون بوصل الألف وفتح الميم و{الله} مبتدأ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبره وخبر {لا} مضمر والتقدير: لا إله في الوجود إلا هو، {وهو} في موضع الرفع بدل من موضع {لا}، واسمه {الحي القيوم} خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي، أو بدل من {هو} و{القيوم} فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت {نَزَّلَ} أي هو نزل {عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {بالحق} حال أي نزله حقاً ثابتاً {مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين. وإنما قيل {نزل الكتاب} و{أنزل التوراة والإنجيل} لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة {مِن قَبْلُ} من قبل القرآن {هُدًى لّلنَّاسِ} لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس {وَأَنزَلَ الفرقان} أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل، أو الزبور، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} من كتبه المنزلة وغيرها {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ} من الصور المختلفة {لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز} في سلطانه {الحكيم} في تدبيره. روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً. أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام: «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟» قالوا: بلى. قال: «ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله»
فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {مِنْهُ} من الكتاب {آيات محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها {وَأُخَّرُ} وآيات أخر {متشابهات} مشتبهات محتملات. مثال ذلك {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآيات، {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الأسراء: 23]. الآيات. والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وما احتمل أوجهاً، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به. وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى. {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ميل عن الحق وهم أهل البدع {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه} فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق {مِنْهُ ابتغاء الفتنة} طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله {والراسخون فِي العلم} والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور، والوقف عندهم على قوله {إلا الله} وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون {آمنّا به} وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به، واعتقاد حقية ما أراد الله به، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً، ويعضده قراءة أبي: {ويقول الراسخون} وعبد الله: {إن تأويله إلا عند الله}. ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و{يقولون} كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب {كُلٌّ} من متشابهه ومحكمه {مِّنْ عِندِ رَبّنَا} من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه {وَمَا يَذَّكَّرُ} وما يتعظ وأصله يتذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أصحاب العقول، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل. وقيل: {يقولون} حال من الراسخين.

.تفسير الآيات (10- 20):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} كثير الهبة، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في وقوعه {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} الموعد. والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك (إن الجواد لا يخيب سائله) أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} برسول الله {لَن تُغْنِيَ} تنفع أو تدفع {عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} من عذابه {شَيْئاً} من الأشياء {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} حطبها {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله. والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم، أو منصوب المحل ب {لن تغني} أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك. {كداب} بلا همز حيث كان: أبو عمرو. {كَذَّبُواْ بئاياتنا} تفسير لدأبهم مما فعلوا، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه {والله شَدِيدُ العقاب} شديد عقابه فالإضافة غير محضة {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} هم مشركو مكة {سَتُغْلَبُونَ} يوم بدر {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} من الجهنام وهي بئر عميقة. وبالياء فيهما: حمزة وعلي {وَبِئْسَ المهاد} المستقر جهنم.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ} الخطاب لمشركي قريش {فِي فِئَتَيْنِ التقتا} يوم بدر {فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله} وهم المؤمنون {وأخرى} وفئة أخرى {كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم. {ترونهم} نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ}
[الرحمن: 39]. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤولُونَ} [الصافات: 24]. وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. و{مثليهم} نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله {رَأْيَ العين} يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ} كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في تكثير القليل {لَعِبْرَةً} لعظة {لأُوْلِي الأبصار} لذوي البصائر.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7]. دليله قراءة مجاهد {زين للناس} على تسمية الفاعل. وعن الحسن: الشيطان {حُبُّ الشهوات} الشهوة توقان النفس إلى الشيء، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية {مِّنَ النساء} والإماء داخلة فيها {والبنين} جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع {والقناطير} جمع قنطار وهو المال الكثير. قيل: ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا {المقنطرة} المنضدة أو المدفونة {مِنَ الذهب والفضة} سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق {والخيل} سميت به لاختيالها في مشيها {المسومة} المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها {والأنعام} هي الأزواج الثمانية {والحرث} الزرع {ذلك} المذكور {مَّتَاعُ الحياة الدنيا} يتمتع به في الدنيا {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} المرجع.
ثم زهدهم في الدنيا فقال: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} من الذي تقدم {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، ف {جَنات} مبتدأ {لَلذين اتقوا} خبره {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة ل {جنات}، ويجوز أن يتعلق اللام ب {خير} واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به. ويرتفع {جنات} على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ {جناتٍ} بالجر على البدل من {خير} {خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله} أي رضا الله {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات.
{الذين يَقُولُونَ} نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد {رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا} إجابة لدعوتك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} إنجازاً لوعدك {وَقِنَا عَذَابَ النار} بفضلك {الصابرين} على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح {والصادقين} قولاً بإخبار الحق، وفعلاً بإحكام العمل، ونية بإمضاء العزم {والقانتين} الداعين أو المطيعين {والمنفقين} المتصدقين {والمستغفرين بالأسحار} المصلين أو طالبين المغفرة، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء، ولأنه وقت الخلوة.
قال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم. والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
{شَهِدَ الله} أي حكم أو قال: {أَنَّهُ} أي بأنه {لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة} بما عاينوا من عظيم قدرته {وَأُوْلُواْ العلم} أي الأنبياء والعلماء {قَائِمَاً بالقسط} مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من {هو}، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت (جاء زيد وعمرو راكباً) لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت (جاءني زيد وهند راكبا) جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح. وكرر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} للتأكيد {العزيز الحكيم} رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف ل {هو} لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} جملة مستأنفة. وقرئ: {أن الدين} على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام. قال عليه السلام: «من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة، ومن قال بعدها: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة: إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير بن الله {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} أنه الحق الذي لا محيد عنه {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام. وقيل: هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض. وقيل: هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} بحججه ودلائله {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} سريع المجازاة {فَإنْ حَاجُّوكَ} فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه:
{قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران: 64]. فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه! {وَمَنِ اتبعن} عطف على التاء في {أسلمت} أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل، ويجوز أن يكون الواو بمعنى (مع) فيكون مفعولاً معه. {ومن اتبعني} في الحالين: سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل. {وجهي}: مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي. {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} من اليهود والنصارى {والأميين} والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب {ءَأَسْلَمْتُمْ} بهمزتين: كوفي، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وقيل: لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي انتهوا {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى {والله بَصِيرٌ بالعباد} فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم.